صوم النفل أو صوم التطوع
صوم النفل |
والنفل بمعنى: الزيادة المشروعة على الفرض على وجه مخصوص، والتطوع بمعنى: ما يشرع فعله من غير إلزام، ويسمى أيضا: الصوم المندوب، أو المستحب، وهو: ما اقتضى الشرع فعله من غير إلزام. والصوم الذي اقتضى الشرع فعله إما على وجه الإلزام، وهو: صوم شهر رمضان، وكل صوم واجب بنذر أو قضاء وغيره، وإما على غير وجه إلزام وهو: صوم التطوع، وهو النوع الثاني من أنواع الصيام، وهو: ما ليس بواجب، فهو بمعنى المستحب، سواء كان مقيدا أو مطلقا، ويشمل أنواعاً متعددة، وقد شرع صوم التطوع من أجل جبر الخلل الذي يحصل في الفريضة، ومن أجل زيادة الأجر والثواب. «عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "قال رسول الله ﷺ: «من صام يوما في سبيل الله بَعَّدَ الله وجهه عن النار سبعين خريفا»".[114][115] و"عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله ﷺ: «إن أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوما ويفطر يوما»".[116] و«عن عامر بن مسعود عن النبي ﷺ قال: الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء
صوم النفل أنواع
صوم النفل أنواع، فهو إما؛ نفل مطلق، أو مقيد، فالمطلق هو المندوب فعله في الشرع من غير تقييد له بخصوصه، كمن أراد أن يصوم يوما، فله أن يصوم في غير الأقات المنهي عن صيامها. والنفل المقيد هو الذي ورد في الشرع استحبابه بخصوصه، وهو أنواع منها: صوم يوم عاشوراء، وصوم الإثنين والخميس.. والصوم من حيث هو قربة يتقرب بها العبد إلى الله، وهو إما فرض أو تطوع، فالفرض أفضل ما تقرب به العبد وفي الحديث القدسي: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه»، وأما التطوع فهو زيادة في التقرب إلى الله، وفي الحديث القدسي: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه..».
الصوم المنهي عنة
من المنهي عنه في الشرع الإسلامي التعمق في العبادة، أي: المبالغة فيها بما يعد من قبيل التنطع. والمشروع في الإسلام هو التوسط في العبادة بمعنى الأخذ بأوسط الأمور وأعدلها وأحبها إلى الله، ومما يدل على النهي عن المبالغة في العبادة ما أخرجه البخاري في صحيحه قال: «حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر أخبرنا حميد بن أبي حميد الطويل أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ﷺ يسألون عن عبادة النبي ﷺ فلما أخبروا كأنهم تَقَالُّوهَا فقالوا: وأين نحن من النبي ﷺ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله ﷺ إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني».[119] في هذا الحديث دليل النهي عن التعمق في العبادة، حيث أنه يطلب الفرض وما يشرع معه من النوافل، والتعمق بمعنى التنطع أو التشدد الذي يخالف الشرع، وتظهر صورته في وصل الصيام وصوم الدهر. وسبب النهي عن المبالغة في العبادة أنه مما يؤدي إلى ترك الواجبات، كما أن ملازمة الاقتصار على الفرائض وترك التنفل يفضي إلى إيثار البطالة وعدم النشاط إلى العبادة وخير الأمور الوسط. كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها. ومعنى: «كأنهم تقالوها»: بتشديد اللام المضمومة أي: رأى كل منهم أنها قليلة، وتأولوا ذلك بأن من علم أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر لا يحتاج إلى مزيد من العمل، وأن من لم يعلم بحصول ذلك له يحتاج إلى المبالغة في العبادة عسى أن يحصل له ذلك. وقد بين في الحديث أنه لا يلزم منه حصوله، وأشار إلى هذا بأنه أشدهم خشية وذلك بالنسبة لمقام العبودية في جانب الربوبية، وأشار في حديث عائشة والمغيرة في صلاة الليل إلى معنى آخر بقوله: «أفلا أكون عبدا شكورا». وأن العلم بالله ومعرفة ما يجب من حقه أعظم قدرا من مجرد العبادة البدنية. وقوله: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له»، قال ابن حجر: فيه إشارة إلى رد ما بنوا عليه أمرهم من أن المغفور له لا يحتاج إلى مزيد في العبادة بخلاف غيره، فأعلمهم أنه مع كونه يبالغ في التشديد في العبادة أخشى لله وأتقى من الذين يشددون، وإنما كان كذلك لأن المشدد لا يأمن من الملل بخلاف المقتصد فإنه أمكن لاستمراره وخير العمل ما داوم عليه صاحبه، وقد أرشد إلى ذلك في قوله في الحديث الآخر: «المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى
قوله: «فمن رغب عن سنتي فليس مني»: لا يستلزم الخروج عن الملة لمجرد المبالغة في العبادة، والسنة هنا بمعنى: الطريقة لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، قال ابن حجر: «والمراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني، ولمح بذلك إلى طريق الرهبانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى وقد عابهم بأنهم ما وفوه بما التزموه، وطريقة النبي ﷺ الحنيفية السمحة فيفطر ليتقوى على الصوم وينام ليتقوى على القيام ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل». وفي كلامه: أن في هذا الحديث دلالة على تقديم الحمد والثناء على الله عند إلقاء مسائل العلم وبيان الأحكام للمكلفين وإزالة الشبهة عن المجتهدين وأن المباحات قد تنقلب بالقصد إلى الكراهة والاستحباب
الفطر في صوم النفل
صوم النفل هو الزائد عن الفرض بمعنى أن الصائم المتطوع متلبس بعبادة غير واجبة عليه، والصوم من حيث هو عبادة اقتضى الشرع فعلها إما على جهة الإلزام وهو الصوم المفروض وهو صوم شهر رمضان، وما وجب مثل صوم النذر والقضاء، فالصوم المفروض لا يجوز قطعه إلا لعذر شرعي، وأما صوم النفل فهناك اعتبارات متعلقة به، فمن حيث هو عبادة متطوع بها، والعبادة المتطوع بها غير لازمة في ابتداء الشروع فيها، أما إذا شرع فيها ثم أراد قطعها؛ فإما أن يكون بعذر أو بغير عذر، فإن كان بعذر؛ فقطعها جائز بسبب العذر، وهذا بخلاف الحج فإنه وإن كان نفلا فلا يقطعه إلا إن كان لعذر فيتحلل بعمل عمرة فيستثنى من ذلك، وإن كان قطع النافلة بعد الشروع فيها لغير عذر؛ فهناك اعتباران أحدهما: أن قطع للعبادة إبطال للعمل، وقد قال الله تعالى: ﴿ولا تبطلوا أعمالكم﴾، والمتطوع قد ألزم نفسه فلا يبطل عمله بعد الشروع فيه، وثانيهما: أن المتطوع بالنافلة غير ملزم بها أصلا فلو قطعها فذلك جائز، ومما يدل عليه حديث: «الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر».[121] وعن جعدة عن جدته أم هانئ: «أن رسول الله ﷺ دخل عليها فدعى بشراب فشرب ثم ناولها فشربت فقالت: يا رسول الله أما إني كنت صائمة فقال رسول الله ﷺ: الصائم المتطوع أمين نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر».[122] قال: «والعمل عليه عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي ﷺ وغيرهم أن الصائم المتطوع إذا أفطر فلا قضاء عليه إلا أن يحب أن يقضيه وهو قول سفيان الثوري وأحمد وإسحق والشافعي».[123] قال في شرح سنن الترمذي: قوله: «أمين نفسه» بالنون قال في المجمع معناه: أنه إذا كان أمين نفسه فله أن يتصرف في أمانة نفسه على ما يشاء. ومعنى أمير نفسه أنه أمير لنفسه بعد دخوله في الصوم إن شاء صام أي أتم صومه، وإن شاء أفطر؟ إما بعذر أو بغيره
عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: «آخى النبي ﷺ بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها: ما شأنك قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال: نم فنام ثم ذهب يقوم فقال: نم فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن قال: فصليا فقال له سلمان: "إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه" فأتى النبي ﷺ فذكر ذلك له فقال النبي ﷺ: «صدق سلمان». (أبو جحيفة وهب السوائي يقال وهب الخير)». قال ابن حجر: ووقع في التكلف للضيف حديث سلمان «نهانا رسول الله ﷺ أن نتكلف للضيف»، أخرجه أحمد والحاكم، وفيه قصة سلمان مع ضيفه حيث طلب منه زيادة على ما قدم له فرهن مطهرته بسبب ذلك، ثم قال الرجل لما فرغ: "الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا". فقال له سلمان: "لو قنعت ما كانت مطهرتي مرهونة".[125]
ومن دخل في صوم تصوع أو صلاة تطوع استحب له إتمامهما، وهو قول الشافعي، وأيضا هو قول الشافعية، كما حكاه النووي في المجموع وأضاف أنه لو أبطلهما بعذر أو بغير عذر جاز له ذلك، لكن يكره إبطالهما بغير عذر، لقوله تعالى: ﴿ولا تبطلوا أعمالكم﴾، أما الخروج منه بعذر فلا يكره، ولا قضاء عليه، ويستحب له قضاءه سواء كان بعذر أو بغير عذر.[126] وعند الحنفية: وجوب الصوم بالشروع ووجوب القضاء بالإفساد، بمعنى أن صوم النفل بعد الشروع فيه يصير واجبا، وإفساده يوجب القضاء.[127][128]
وذكر ابن قدامة في المغني في كلامه على المتن في قوله: «ومن دخل في صيام تطوع فخرج منه فلا قضاء عليه، وإن قضاه فحسن» أنه يستحب إتمام صوم النفل بعد الشروع فيه، وأن من دخل في صيام تطوع استحب له إتمامه ولم يجب، فإن خرج منه فلا قضاء عليه. ونقل عن ابن عمر وابن عباس أنهما أصبحا صائمين ثم أفطرا وقال ابن عمر: لا بأس به، ما لم يكن نذرا أو قضاء رمضان، وقال ابن عباس: إذا صام الرجل تطوعا ثم شاء أن يقطعه قطعه وإذا دخل في صلاة تطوعا ثم شاء أن يقطعها قطعها وقال ابن مسعود: متى أصبحت تريد الصوم فأنت على آخر النظرين إن شئت صمت وإن شئت أفطرت هذا مذهب أحمد والثوري والشافعي وإسحاق.[129] وقال النخعي وأبو حنيفة ومالك: يلزم بالشروع فيه ولا يخرج منه إلا بعذر، فإن خرج قضى. وعن مالك: لا قضاء عليه.
واستدل القائلون بوجوب القضاء بما ورد عن عائشة أنها قالت: «أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين، فأهدي لنا حيس فأفطرنا، ثم سألنا رسول الله ﷺ فقال: "اقضيا يوما مكانه"»، ولأنها عبادة تلزم بالنذر فلزمت بالشروع فيها كالحج والعمرة.[129] واستدل القائلون بعدم وجوب القضاء بما روى مسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة قالت: «دخل علي رسول الله ﷺ يوما فقال: هل عندكم شيء؟ فقلت: لا. قال: فإني صائم. ثم مر بعد ذلك اليوم وقد أهدي إلي حيس فخبأت له منه، وكان يحب الحيس قلت: يا رسول الله إنه أهدي لنا حيس، فخبأت لك منه قال: أدنيه، أما إني قد أصبحت وأنا صائم، فأكل منه ثم قال لنا: إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة، فإن شاء أمضاها وإن شاء حبسها» هذا لفظ رواية النسائي وهو أتم من غيره
وروت أم هانئ قالت: «دخلت على رسول الله ﷺ فأتي بشراب، فناولنيه فشربت منه، ثم قلت: يا رسول الله، لقد أفطرت وكنت صائمة، فقال لها: أكنت تقضين شيئا؟ قالت: لا، قال: فلا يضرك إن كان تطوعاً». وفي لفظ قالت: «قلت: إني صائمة فقال رسول الله ﷺ: إن المتطوع أمير نفسه، فإن شئت فصومي، وإن شئت فأفطري». ولأن كل صوم لو أتمه كان تطوعا إذا خرج منه لم يجب قضاؤه، كما لو اعتقد أنه من رمضان فبان من شعبان أو من شوال
مواضيع