حقوق الإنسان في الشرع الاسلامي
شرع الإسلام من المبادئ وسنَّ من القيم ما يكفل الحقوق الكاملة التي توجبها الحياة الإنسانية, وتفرضها الكرامة البشرية على هذه الأرض، ولم تحظ هذه الحقوق في أيّة شريعة من الشرائع السماوية أو من النظم الأرضية، بمثل ما حظيت به في شريعة الإسلام، فقد ارتقت بها حتى جعلتها من الواجبات الدينية المتحتمة التي يحرم الإخلال بها، قال سبحانه في محكم تنزيله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]
حقوق الإنسان في الإسلام |
.
ولأهمية موضوع الحقوق الإنسانية، التي تُعَدُّ انشغالًا رئيسيًّا اليوم في العالم، اخترت الكتابة في هذا المبحث، مع بعض الاعتبارات الأخرى، أوجزها كالتالي:
أهمية حقوق الإنسان
1 - العناية البالغة التي أصبح يوليها المجتمع الدولي لقضايا حقوق الإنسان في أبعادها المتعددة، على مستوى التشريعات التي تطورت في اتجاه تأصيل الثقافة الحقوقية وإحاطتها بالضمانات اللازمة، وقد تعددت حول هذه القضية وجهات النظر، وتنامى الجدل، وحَمِيَ الحوار، وكَثُرَ فيه السجال الفكري، وتزايدت أعداد الجمعيات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية، وبرزت الهيئات القطرية والإقليمية والدولية المنتصرة لقضايا حقوق الإنسان، وانفسخ مجال التركيز عليها في وسائل الإعلام، التي لها من التأثير الفعَّال والدعاية القوية ما هو غير خافٍ، حتى غدت قضايا حقوق الإنسان من الاهتمامات المركزية الجوهرية التي تتبناها الدول والمنظمات والنخب السياسية والفكرية، ويعتني بها جمهور الناس.
2 - قد يغلب على ظن الخاصِّ والعامِّ، تحت تأثير ما يذاع من هنا وهناك، أن هذه القضية إنما هي من الاهتمامات المستجدة المستحدثة، أو هي ثمرة من الثمرات التي أنتجتها حضارة العصر، أو هي من مبتدعات الثقافة الغربية الغازية المسيطرة على العالم، ولما لم يخل المجتمع العربي والإسلامي من هذه التأثيرات التي شكَّلَت نمط تفكيره، وكيَّفَتْ حياته وطرق تعامله، ووجَّهَتْ سلوكياته، شأنه في ذلك شأن بقية المجتمعات، مع ما تَبِعَ ذلك من موجاتٍ عارمَةٍ من التشكيك والافتراء على الإسلام والطعن فيه، سواء عن سوء قصد من أعدائه، أو جهل به من أبنائه, كان لا بُدَّ من تصحيح المفاهيم وتوضيح الحقائق, وردّ الطعون, وبيان الخطأ من الصواب، حتى تطمئن النفوس وتستنير العقول, وتبرأ الضمائر من الشكوك.
3 - تعدد المفاهيم المتناولة لقضايا الحرية والديمقراطية، بتعدد المرجعيات الفلسفية والأيديولوجية والدينية، مما يجعل قضايا حقوق الإنسان تتأرجح بين نوازع الفردية والاجتماعية، وبين دواعي الخصوصية والكونية. والثابت أن التحوّلَ الحضاري الكبير الذي يعيشه العالم اليوم في ظلِّ المد الجديد للعولمة، يتخذ من ناحيةٍ شَكْلَ صراعٍ ظاهرٍ بين وسائل وغايات متناقضة، وقيم ومعطيات متباينة، ومن ناحيةٍ أخرى شكل صراع خفيّ بين ممارسات الهيمنة ومواقف الصمود أمامها, والتشبث بمبدأ الاستقلال وحرية القرار الوطني.
4 - إن مواقف الشطط والتطرف لا تثبت أمام تيار التاريخ الجارف، سواء كانت صادرة عن أنصار العالمية والكونية, أو عن أنصار الإقليمية والمحلية, وإنما تتغذى الثقافة الإنسانية من مجموع التراكمات وثراء الخصوصيات، في تفاعلٍ مستمرٍّ مع الزمن، فتصنع بذلك مدًّا تضامنيًّا إنسانيًّا عالميًّا، لا مجال فيه لغلبة نموذج حضاري مُعَيَّنٍ على آخر، ولا حظَّ فيه لسيطرة ثقافة على أخرى, إلّا أن ميزان التفاضل بين الحضارات يبقى دومًا رَهْنَ ما تشعُّ به من قيمٍ عادلةٍ تفيض خيرًا, وتعمُّ أمنًا وسلمًا على الإنسانية جمعا
مدخل تاريخي لحقوق الإنسان
إن ما يبدو، في العصر الحديث، أنه اهتمام واسع شامل لقضايا حقوق الإنسان، تناولته أنظار الفلاسفة والمفكرين والسياسيين منذ القرن السابع عشر الميلادي، وحبَّرَتْ في شأنه المواثيق والعهود، قد بقي في حقيقة الأمر منحصرًا في القوانين والدساتير، واكْتُفِيَ بالتعبير عنه في شكل مبادئ وقواعد مجملة، ولم تتدرج العناية به إلى المستوى الدولي، إلّا بعد تأسيس منظمة الأمم المتحدة، وصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولم يخرج الاهتمام به إلى الآفاق الرحبة الواسعة، إلّا أثناء احتدام الحرب الباردة بين المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، التي اتخذت في تقدير البعض من حقوق الإنسان ذريعةً للإجهاز على المعسكر الشرقيّ الذي كان يقوده الاتحاد السوفييتي، ونجحت في تفكيك منظومته, ودحر أيديولوجيته، لتتبلور بذلك الصور الجديدة في شكلها المستحدث لقضايا حقوق الإنسان، ولتتحول إلى أداة فاعلة ضاغطة تستخدمها الدول المتقدمة لممارسة الهيمنة, وفرض السيطرة, وبسط النفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي على دول العالم بأسره، بينما يرى آخرون، ممن ينتصرون لثقافة العولمة، أن في التراث الإنساني ما يبرز النضالات من أجل حقوق الإنسان، وأن الاهتمام العالمي المتزايد يومًا بعد يوم، ما هو إلّا تتويجٌ لهذه النضالات, وتكريس لانتصار الإنسان في نهاية المطاف، من أجل تجذير حقوقه في الحرية والكرامة والعدالة والمساواة، وتأصيلها كقيم عالمية كونية، وحمايتها من مخاطر الانتكاس والردة من خلال المواثيق والمعاهدات والتنظميات الدولية.
إن ما يُسَمَّى اليوم بالنظام العالمي الجديد، والذي ظهرت بوارقه الأولى منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، لم يحقق في نظر معارضيه الغايات المرجوّة منه، ولم يثمر في تقديرهم نتائجه المؤملة، وهم يرون أن استفراد القوى
الصناعية الكبرى بحقِّ التصرف في المقدّرات العالمية، قد عمَّقَ التبعية الاقتصادية لدول العالم الثالث تجاهها, بسبب الاحتياج الماسِّ لمساعدات هذه الدول لأغراض التنمية، وتوسّع الخرق الفاصل بين الشمال الغني والجنوب الفقير, ولم تتبلور المنظومة الجديدة في صورتها الجلية الواضحة، ولم تكشف عن نفسها، إلّا بعد سقوط المعسكر الشرقي وتفكيك منظومته، لتفتتح بذلك مرحلة تاريخية جديدة فريدة من نوعها في العالم، تنتفي فيها الأضداد, وينتصر فيها النموذج الأوحد، وتولدت عن هذا الوضع الجديد تكتلاتٌ سياسية واقتصادية جديدة، مستفيدة في ذلك من التطور التكنولوجي الهائل، خاصة في مجالات الاتصال، أمكن بفضله أن تنحصر المسافات وتتقلص الحدود، ليتحول العالم إلى قرية إلكترونية صغيرة.
هذا الموقف المتوجس خطرًا مما يمكن أن تجره العولمة من آثارٍ سيئة، قد عبَّرَتْ عنه نزعات الانطواء، وترجمت عنه الأصوات الداعية إلى العودة إلى الجذور والقيم الأولى، والتمسك بالثقافة التقليدية، كرد فعلٍ ارتدادي على هذه التغيرات التي يراها البعض تهديدًا جديًّا للثقافات الوطنية والإقليمية، ونذير شؤم ينبئ باشتداد العواصف التي قد تقلع الجذور وتأتي على الأصول.
في خِضَمِّ هذا الصراع بين أنصار العولمة وما تحمله في نظرهم من بشائر الانفتاح وتداخل المصالح بين الشعوب وتحسين أنماط عيشها، وبين أنصار المحافظة والتشبث بالنظام القديم، تأخذ إشكالية حقوق الإنسان منعطفًا جديدًا وخطيرًا في الوقت نفسه، وتطرح على الشعوب تساؤلات مصيرية، منها:
1 - مدى قدرة الثقافات المحلية على الصمود والثبات أمام التيار القويّ للعولمة؟
2 - كيف السبيل إلى المحافظة على الخصوصيات، في عالمٍ يسير نحو الاندماج عبر التكتلات الاقتصادية والسياسية؟
3 - هل يحق للإنسان اليوم أن تأمل، عبر ميلاد ثقافة عالمية جديدة، توفر ضمانات قوية من شأنها أن تحمي الحقوق الإنسانية من أيّ انتهاكٍ أو انتكاسٍ أو انحراف؟
وفي مقابل هذه الاستفهامات، تطرح تساؤلات موازية تعبِّرُ في جوهرها عن عمق الحيرة وتوتر الفكرة، ومنها:
1 - كيف تتسنَّى الإجابة على هذه الإشكاليات المبنية أساسًا على معطياتٍ متناقضة وأنظار متباينة؟
2 - كيف يمكن التوفيق بين عنصري التقابل والتضادِّ في الرؤى والتصورات المتناولة للقضايا الإنسانية عمومًا؟
3 - كيف يمكن لقضية حقوق الإنسان أن تتحوّل من إطار الخصوصية التي تتميز بها، إلى إطار العولمة الزاحفة عليها؟
4 - هل يمكن فعلًا تجاوز الخصوصيات التاريخية والحضارية والاجتماعية لهذه القضية وهي معدودة من لوازمها وشروطها؟
3 - حقوق الإنسان بين الخصوصية والكونية:
إن النظر في هذه التساؤلات، يسوقنا حتمًا إلى إبداء الملاحظات التالية:
- إن مثل هذه المواضيع كثيرًا ما تطرح بشكل نضالي يغلب فيه التنظير الأيديولوجي والتحزب السياسي الضيق، وهذا من شأنه أن يضفي على المواقف صبغة الانفعالات العاطفية والتواترات العصبية التي لا تجدي نفعًا في مثل هذه القضايا المصيرية، والتي يتوقف عليها مصير العالم بأسره.
- إن كثيرًا ممن يرفعون شعار كونية الحقوق، يعتقدون أنها لا تخضع لأي استثناءٍ أو خصوصية معينة، مهما كانت طبيعتها، سواء أكانت ثقافية أو اقتصادية أو لغوية أو سياسية أو دينية؛ بحيث يرى هذا الفريق أن حقوق الإنسان متماثلة في كل مكان وزمان ولا مجال فيها للاختلاف، تبعًا لوحدة الجوهر الإنساني.
- يتشبث الفريق المقابل بموقفه الرافض، ويرى أن الكونية المنسوبة لحقوق الإنسان، وهي محض افتراء وذريعة إلى الهيمنة والاعتداء، والتدخل في الشئون الداخلية للشعوب والحكومات، وبسط النفوذ الاقتصادي، والثقافي، ولقد كان للفلسفة السياسية التي ظهرت في أوربا في القرن الثامن عشر، وترجمها إعلان الإنسان إثر الثورة الفرنسية "سنة 1789م"، أثرها البعيد فيما تمخَّضَ عنها من نظام عالمي جديد في السنوات الأخيرة.
- نزعة ثالثة تتوسط النظرتين المتناقضتين، غرضها التوفيق بين الموقفين المتقابلين، على اعتبار أن الكونية لا تنفي الخصوصيات، وأنه يمكن الجمع بينهما, واستمدت موقفها هذا من الإعلان النهائي الصادر عن مؤتمر فيينا1